جيل الإنهاك النفسي: لماذا نشعر بالتعب حتى ونحن لا نفعل شيئًا؟
بقلم: أرافاز | قسم علم النفس الحديث والصحة النفسية
نعيش اليوم في عالم لم يسبق له مثيل في الراحة التقنية — كل شيء متاح بكبسة زر، ومع ذلك نشعر أننا منهكون، متعبون حتى ونحن لا نفعل شيئًا. هذا الشعور الغريب الذي يصفه الأطباء بـالإنهاك النفسي المزمن أصبح أحد أخطر أوبئة القرن الحادي والعشرين.
💤 التعب الذي لا علاقة له بالنوم
كثيرون يقولون: “أنام ثماني ساعات ولا أزال متعبًا.” هذا التعب لا علاقة له بالجسد، بل بالعقل. فالعقل الحديث يعيش في حالة استنفار دائم، يستهلك طاقته في التفكير، المقارنة، والتفاعل مع الضوضاء الرقمية المستمرة. حتى في لحظات الراحة، هو لا يتوقف. الهاتف بجانبنا، الإشعارات لا تهدأ، والدماغ لا يجد فرصة للهدوء.
📱 الإنهاك الرقمي… السمّ اليومي البطيء
في كل مرة نتصفح فيها مواقع التواصل، يتعرض دماغنا لعشرات المثيرات المتناقضة: فرح، حزن، غضب، مقارنة. هذه المشاعر المتقلبة تخلق إجهادًا داخليًا لا يلاحظه أحد. فالعقل لا يعرف أنه "يتسلى"، هو يعتقد أنه يعيش أحداثًا حقيقية — فيفرز هرمونات التوتر نفسها التي يُفرزها في المواقف الواقعية.
🧠 كيف يستهلك الدماغ طاقته دون أن نتحرك؟
يشرح علماء الأعصاب أن الدماغ يستخدم حوالي 20% من طاقة الجسم في حالة الراحة. وعندما يظل منشغلًا بالأفكار السلبية أو المعلومات الزائدة، يستهلك الطاقة كما لو كنت تمارس رياضة شاقة. لذلك، رغم أنك لم تغادر السرير، فإن دماغك قد خاض سباقًا مرهقًا من التفكير والمقارنة والتوقعات.
💔 التوتر المستمر دون سبب واضح
الكثير من الناس اليوم يعانون من ما يُعرف بـالتوتر الصامت. تشعر بالضيق أو القلق دون سبب. والسبب الحقيقي هو أن الدماغ يعيش في حالة "تأهب" دائمة — مستعد لتلقي إشعار جديد، رسالة، أو مشكلة رقمية. هذه الحالة تجعل الجسم يفرز الكورتيزول باستمرار، مما يؤدي إلى الإرهاق المزمن، تساقط الشعر، ضعف التركيز، وحتى الاكتئاب.
🌙 الجيل الذي نسي معنى الراحة
الراحة الحقيقية لم تعد ممكنة بسهولة. حتى عندما نحاول الاسترخاء، نشاهد مقاطع الفيديو أو نرد على الرسائل. أي أننا لا نتوقف فعلاً. النتيجة؟ شعور دائم بالإنهاك العاطفي، كأننا نعيش حياة مزدوجة — ظاهرها هدوء، وباطنها صخب لا ينتهي.
🔥 متلازمة “الإنتاج المستمر”
من أكثر أسباب الإنهاك النفسي انتشارًا هو الشعور بالذنب عند التوقف. نعيش في ثقافة تمجّد العمل والإنجاز، حتى أصبحنا نخاف من الراحة. فإن جلست دون عمل، يبدأ العقل في جلد الذات: “أنا أضيع وقتي، أنا فاشل.” وهكذا، حتى وقت الراحة يتحول إلى معركة داخلية.
💡 كيف نكسر دائرة الإنهاك النفسي؟
- افصل نفسك رقميًا لمدة ساعة على الأقل يوميًا.
- مارس التأمل أو المشي البطيء دون موسيقى أو هاتف.
- قلّل من استهلاك الأخبار والمقاطع السلبية.
- تعلّم أن تقول "لا" للأعباء الزائدة.
- ابدأ بتقدير الهدوء كقيمة وليس كملل.
🌤️ إعادة اكتشاف البطء
الحل ليس في العزلة، بل في التوازن. لا يمكننا الهروب من التكنولوجيا، لكن يمكننا أن نعيد تدريب عقولنا على البطء. الراحة ليست رفاهية — إنها ضرورة بيولوجية. حين تعطي عقلك وقتًا للهدوء، فإنه يعود أكثر طاقةً ووضوحًا، تمامًا كما تحتاج الأجهزة إلى إعادة تشغيل.
❓الأسئلة الشائعة حول الإنهاك النفسي
1. ما الفرق بين التعب الجسدي والإنهاك النفسي؟
التعب الجسدي يزول بعد النوم أو الراحة البدنية، بينما الإنهاك النفسي يستمر رغم الراحة لأنه مرتبط بفرط التفكير والضغوط العاطفية.
2. هل يمكن أن يؤدي الإنهاك النفسي إلى أمراض جسدية؟
نعم. فارتفاع هرمون الكورتيزول المزمن يؤدي إلى اضطرابات في المناعة، وزيادة خطر أمراض القلب، ومشاكل في الجهاز الهضمي.
3. كيف أعرف أنني أعاني من الإنهاك النفسي؟
عندما تشعر بالتعب المستمر، ضعف التركيز، فقدان الشغف، أو الحساسية الزائدة تجاه الأصوات والمواقف، فهذه مؤشرات قوية.
4. ما هو العلاج الأفضل؟
يبدأ العلاج بالاعتراف بالمشكلة، ثم بتقليل المحفزات الذهنية اليومية. يُنصح بالاسترخاء المنتظم، قضاء وقت في الطبيعة، وتقليل التفاعل مع الشاشات.
5. هل يمكن الوقاية من الإنهاك النفسي؟
نعم. عبر وضع حدود واضحة بين العمل والراحة، والنوم المنتظم، والتعامل الواعي مع التكنولوجيا، يمكن منع تراكم الإجهاد قبل أن يتحول إلى إنهاك دائم.
📎 المصادر:
منظمة الصحة العالمية – دراسات عن الإرهاق المزمن والضغط العصبي
Psychology Today – مقالات عن الإنهاك النفسي في العصر الرقمي
American Psychological Association – أبحاث حول التوتر الصامت وتأثيراته العصبية
